السؤال:
سؤالي، هو: أني أبلغ من العمر30 عامًا، وأعاني من الوحدة وقلة الأصدقاء، ولي عدة سنوات ملتزم فيها- الحمد لله- ولكن أعجز عن تكوين علاقة وثيقة بأحد، رغم الملاطفة مع الناس، وخاصة المتدينين رغم أنني أعرف الكثير لكن دون علاقة حميمة.. أرشدوني إلى الحل!
الجواب:
الحمد لله رب العالمين وبعد: لقد كفل الله سبحانه السعادة التامة والحياة الهنيئة لمن أنس به سبحانه واستغنى به عمن سواه وأكثر من ذكره وبالغ في شكره وتوكل عليه ورضي بقضائه.. كذلك فقد أمرنا سبحانه بدعم العلاقات بين أهل الإيمان بعضهم بعضًا تعاونًا وموالاة في سبيل الله وكفل لهم الرحمة والهناءة، إذ يقول سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
والدراسات التربوية الاجتماعية تكشف عن أثر التفاعل الاجتماعي وشبكة العلاقات الاجتماعية التي يعيش المرء في ظلها على السعادة، وفي بحث قام به أحد المعاهد البحثية العالمية وجد أن للحياة الأسرية والصداقات نسبة لا تقل عن 41% من نسبة الصفاء النفسي الإيجابي (بحث قام به معهد كامبل للدراسات النفسية والاجتماعية) ويمثل العون المادي والدعم الانفعالي في الفرح والحزن والمشاركة في الاهتمامات أهم ما يفضله الكثيرون من صداقاتهم وعلاقاتهم.. وأحب أن أتناول الرد على استشارتك من خلال عدة محاور هامة:
أولًا: بين العزلة والخلطة: اختلف أهل العلم بين فضيلتي العزلة عن الناس وقلة الاحتكاك بهم والتعامل معهم أو الخلطة بهم وكثرة التعامل والتفاعل معهم، وأيهما أفضل للمؤمن، وأسوق لكم كلام الإمام ابن القيم- رحمه الله- توفيقًا بين الأقوال وتبصيرًا بالقول الأصوب والأرجح إذ يقول ابن القيم رحمه الله: (فأما ما تؤثره الخلطة: فامتلاء القلب من دخان بني آدم حتى يسود، ويوجب له تشتتًا وتفرقًا وهمًّا وغمًّا وضعفًا وحملًا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء وإضاعة مصالحه والاشتغال عنها بهم وبأمورهم وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم، فماذا يبقى منه للدار الآخرة؟.. ثم قال: وهل آفة الناس إلا الناس؟ وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء؟ مازالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة توجب سعادة الأبد!.. ثم قال: والضابط النافع في أمر الخلطة أن يخالط الإنسان الناس في الخير، كالجمعة والجماعات، والأعياد والحج وتعلم العلم والجهاد والنصيحة ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات.. ثم قال: وإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه... ثم قال: فإن أعجزته المقادير عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضرًا غائبًا قريبًا بعيدًا نائمًا يقظًا ينظر إليهم ولا يبصرهم ويسمع كلامهم ولا يعيه؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقي به إلى الملأ الأعلى...). (مدارج السالكين).
ثانيًا: انظر ما عليك قبل أن تسأل ما لك.. فبعض منا قد يتساءل لماذا لا يجتمع الناس حولي؟ لماذا لا تتكون لدي شبكة علاقات حميمية؟ هل لأن الناس يحسدونني؟ أم لأنهم نفعيون مصلحيون وفقط؟ وللأسف فإنه لا يسأل نفسه الأسئلة ذات الوجه الآخر: هل لأنني لا أؤدي حقوق الناس التي علي؟ هل لأن أخلاقي تحتاج إلى تعديل وتقويم؟ هل لأنني منطو على نفسي وقليل المبادرة والتعارف؟ هل لأنني متجهم الوجه في غالب أحياني؟.. إلى غير ذلك من الأسئلة التي يجب أن يسألها المرء نفسه قبل أن يتهم الآخرين.. ومن هنا لزم المرء قبل أن يسأل ما سبب وحدتي وتفردي أن يصلح نفسه على ذلك المستوى ويصلح أخلاقه ومعاملاته..
ثالثًا: المبادرة شرارة التعارف.. لا شك أن الذين يفضلون الصمت والسكوت في كل حال والابتعاد والتجهم والترفع والانطواء عن الناس هم أقل الناس تعارفًا بالناس وأقل الناس صداقة بالناس، فالمبادرة هي الشرارة الأولى لتكوين العلاقات الاجتماعية ولبناء التعارف والتواد، فلا تنتظر حتى يقدم عليك أخوك، بل بادر أنت واذهب إليه وتعارف به تملأ وجهك الابتسامة الوضاءة وتحر الأوقات المناسبة لذلك وانتق الكلمات الرقيقة في ذلك كأن تقول له: أخي الكريم رأيتك قبل ذلك وتمنيت لو تعارفت بك في الله وانفتح قلبي لك، أو غير ذلك مما يناسب المقام.. يقول المربي الفاضل الأستاذ عباس السيسي في كتابه (الدعوة إلى الله حب): (إن صلة القلوب لا تحتاج إلا إلى صدق النية وصدق الحب، وإن كلمة واحدة في نظرة واحدة صادقة وخطوة مخلصة تكفي لإيقاظ القلب وإنعاش الروح للسير في ذات السبيل، وإنه من أعظم ما تفضل الله به علينا هو نعمة الحب في الله فإن الإنسان في حاجة إلى قلب يئن معه ويستشيره ولابد من شكوى إلى ذي مروءة، وخُلُق وعلم وحكمة وإيمان).
الكاتب: خالد رُوشه.
المصدر: موقع المسلم.